نحن لا نُحب عبثًا، ولا نتعلّق من فراغ. كل علاقة تدخل حياتنا تُلامس شيئًا في أعماقنا… تُضيء مكانًا كان معتمًا، أو تُربّت على خوف ظلّ صامتًا لسنوات. نُحب لأننا نحتاج أن نُحب. لأننا نحتاج أن نشعر أن هناك من يرانا، يسمعنا، يختارنا. وفي لحظة ما، يتحوّل هذا الاحتياج إلى تعلّق. والتعلّق، رغم دفئه المؤقت، يحمل في داخله ألمًا مؤجلًا.
في بداية التعلّق، يبدو الأمر وكأننا أخيرًا وجدنا “البيت” الذي نبحث عنه. نظن أن هذا الآخر هو الأمان، هو الإجابة، هو الاستقرار الذي لطالما افتقدناه. نُعلّق عليه أحلامًا لم تتحقق، ونراه بعينٍ مثقلة بالتوق، لا بعينٍ ترى الواقع كما هو. وهكذا، ننسج علاقة لا مع الشخص الحقيقي، بل مع الصورة التي خلقناها له… ومع الوقت، كلما بدأت تلك الصورة تتشقق، كلما اشتدّ تمسّكنا بها. نخاف من الفقد، من العودة إلى الوحدة، من الشعور بأننا لم نكن كافيين. لكن شيئًا يتغير...
ليس بشكل مفاجئ، ولا بصوت عالٍ. بل بصمت. يبدأ التعب بالتسلل إلى القلب، وكأنك تستنزف شيئًا داخلك كل يوم لتبقي العلاقة واقفة على قدميها. تسامح كثيرًا، تتنازل أكثر، تبرر له، وتُهمّش شعورك، ثم تبدأ تتساءل بصوت خافت: “هل هذا هو الحب فعلًا؟ أم أنني فقط خائف من أن أكون وحدي؟”
الشيء العجيب هو أن قرار الاكتفاء لا يأتي دائمًا في لحظة غضب، بل في لحظة هدوء… لحظة تشبه النضج، تشبه الاستيقاظ من حلم طويل. تستيقظ وتلاحظ أنك لم تعد الشخص ذاته. أن حاجتك لهذا الآخر لم تعد كما كانت. لم يعد يملأك، ولا يُشعلك، ولا يُشبهك. ما زال في القلب مكان له، نعم، لكنك لم تعد على استعداد أن تدفع ثمن التعلق به.
الوعي هو أول خطوة نحو الاكتفاء. حين ترى الأمور كما هي، دون زينة، ودون محاولات إقناع. حين تعترف بأنك تعبت، بأنك أعطيت أكثر مما تستطيع، وأنك تستحق علاقة تشبهك، تحترمك، لا تُشعرك أن وجودك مشروط أو أن حبك عبء.
بعد التعلق، لا يكون المضي قدمًا سهلًا، لكنه مُمكن. وأحيانًا، يُصبح ضروريًا. المضي لا يعني أن القلب لم يحب، بل يعني أنه أحبّ بما يكفي ليفهم متى يجب أن يتوقف. أن يُعيد لنفسه كرامتها، وهدوءها، ومساحتها.
نحن نكتفي عندما نُدرك أننا لم نعد نبحث عن من يُكملنا، بل من يُرافقنا. عندما نفهم أن الحب لا يجب أن يُرهق، أن يُقلق، أن يُوجِع أكثر مما يُداوي. نكتفي عندما نعرف أننا نستحق علاقة لا نضطر فيها إلى أن نشرح كثيرًا، أو نُبرّر كثيرًا.
القرار لا يأتي مرة واحدة. بل هو طريق من الإدراك، يليه الحزن ثم التردد ثم مقاومة الرجوع ثم التصالح. وقد تستيقظ في يوم وتشتاق جدًا وتشعر أنك تريد العودة… لكنك لا تفعل. لأنك أصبحت تعرف أكثر. لأنك تعلم أنك تستحق أكثر.
وليس من الضروري أن تنتهي كل علاقة مؤلمة بكُره أو صِدام. أحيانًا، أجمل ما يمكن أن نفعله لأنفسنا هو أن نغادر بصمت، باحترام، بامتنان لما تعلمناه. لأننا مهما خسرنا، كسبنا أنفسنا.
في كل مرة نقرر أن نكتفي، أن نمضي، أن نترك ما يُرهقنا… نكون في الحقيقة نختار أنفسنا. وهذا وحده، شكل عميق من أشكال الحب.
الحب ليس دائمًا أن تبقى، أحيانًا الحب هو أن تمضي… لأنك نضجت بما يكفي لتعرف أن السلام أهم من الحضور، وأن الراحة أصدق من التعلّق.